الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
فجيء بهما أمام رسول اللّه فسألهما، فقالا إنا اشتريناه من بديل قبل وفاته وبعناه إلى هذا بمكة، وإذ لم يتذرعا بهذا الوضع عند سؤالهما أولا وحلفهما على عدم وجوده عد كلامهما تناقضا مانعا من سماعه، فقد طلب حضرة الرّسول البينة من أهل الميت فتقدم عمرو بن العاص والمطلب بن أبي وداعة من أهله وورثته وحلفا بعد العصر على الصّورة المذكورة في الآية، وأن الإناء لمورثهما فدفع الإناء إليهم، وأفهم المشتري أن له حق الرّجوع باسترداد ثمنه من المذكورين، ولما أسلم بديل قال صدق اللّه إنا أخذنا الإناء وبعناه، فنزلت هذه الآية.الحكم الشّرعي عدم وجوب الحلف على الشّهود وعليه فيراد بهما الوصيان، وهما لا يحلفان إذ لا حلف عليهما إذا أرادا براءة ذمتهما فيحلفان ليطمئن الوارث بقولهما، فلهما ذلك، والاستشهاد مطلوب على الوصية، وهذه الحادثة لم يشهد عليها لعدم وجود أحد إذ ذاك غيرهما والموصي، ومن زعم أن هذه الآية منسوخة على رأيه لأن شهادة الكافر لا تقبل على المسلم اقتباسا من قوله تعالى: {شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ} الآية 283 من سورة البقرة فهو زعم فاسد، لأن آية البقرة مقدمة على هذه، والمقدم لا ينسخ المؤخر قولا واحدا، وقد أجمعت العلماء على أن المائدة من آخر القرآن نزولا ولا نسخ فيها البتة، وهذه الآية المصدرة بيا أيها الّذين آمنوا صرحت أولا بلفظ (منكم) بما يدل على أنه يريد المؤمنين، وفي حالة عدم وجود أحد من المؤمنين قال: {من غيركم} وغير المؤمنين يدخل فيه الكتابي والكافر بما يدل على قبول شهادة غير المؤمن دلالة ظاهرة لا احتمال فيها ولا تأويل، ولهذا فإن اللّه تعالى أوجب الحلف على المذكورين لأن الشّاهد المسلم لا حلف عليه، وغيره يحلف للتوثق منه، وإذا جاز نصا استشهاد غير المسلم فلأن تجوز توصيته من باب أولى حرصا على محافظة الحقوق وصيانته أربابها، لأن من كان بأرض لا إسلام فيها يجوز أن يشهد أو يوصي من حضر عنده كتابيا كان أو كافرا، لأن الضّرورات تبيح المحظورات، وكما يختار المسلم على غيره عند وجوده يختار الكتابي على الكافر، قال القاضي شريح: تقبل الشّهادة في مثل هذه الحالة ولو كافرا من عبدة الأصنام.أخرج أبو داود عن الشّعبي أن رجلا من المسلمين حضرته الوفاة ولم يجد أحدا من المسلمين يشهده على وصيته، فأشهد رجلين من أهل الكتاب، فقدما الكوفة فأتيا أبا موسى الأشعري، فأخبراه وقدما تركته ووصيته، فقال أبو موسى هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم، فأحلفهما بعد العصر باللّه ما خانا ولا كذبا ولا بدلا ولا كتما ولا غيرا، وأنها لوصية الرّجل وتركته، فأمضى شهادتهما ولأنه لو لم يشهد في مثل هذه الحالة من حضر عنده من النّاس أيا كان يضيع المال ولربما كان له ديون أو عليه أو عنده وديعة أو أمانة فيسبّب عدم الإشهاد ضياع ذلك، ولهذا فلا مانع شرعا من ذلك، بل يطلب أن يشهد أو يوصي غير المسلم ولو كان وثنيا على وصيته عند الحاجة.مسألة:إذا ادعى الوصي أن الميت باعه شيئا من متاعه أو أوصى له به أو وهبه إياه ولا شهود لديه على ذلك، والورثة تنكر، فيحلف الوصي على ذلك، ثم ترد اليمين على الورثة الأدنياء من الميت، فإذا حلفوا على كذب الوصي الموصى له بذلك الشّيء أخذوا المال المدعى بيعه أو هبته أو الوصية به، وإذا فكلوا ترك الموصي، وهذا تصوير ما جاء في هذه الآية لأن تميما وعديا بعد أن وجد الإناء ادعيا أنهما اشترياه من الميت ولا بينة لهما، فلذلك حلف الورثة على أنه ملك مورثهما وأنهما لم يعلموا بأنه خرج من ملك مورثهم بوجه من الوجوه الشّرعية.واعلم أن هذه الآية وأوائل سورة البينة والآية 73 من آل عمران المارتين من أصعب ما في القرآن العظيم نظما وأعرابا وحكما فكانت من أصعبها تفسيرا أيضا.قال تعالى واذكر لقومك يا سيد الرّسل {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ} يوم القيامة للسؤال {فَيَقُولُ} جل قوله لهم {ما ذا أُجِبْتُمْ} من قبل أممكم حينما دعوتموهم في الدّنيا إلى توحيدي وطاعتي وهذا الاستفسار بقصد التوبيخ لأقوامهم الّذين لم يلبوا دعوتهم، وإلّا فهو عالم بمن أجاب ومن اعرض {قالُوا لا عِلْمَ لَنا} يا ربنا {إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109)} تعلم بما كان منهم وإنما اختاروا السّكوت عن البيان مع أنهم يعلمون بعض أحوال أممهم أدبا مع اللّه عز وجل، ولعلمهم بإحاطة علمه بكل شيء قد فوضوا الأمر اليه لأنه لا يعرّب عن علمه شيء مما عمله أقوامهم ولا شيء مما عملوه هم أيضا لأجلهم، وانهم وان كانوا اطلعوا على بعض ظواهر أممهم فانهم لا يعلمون بواطنهم وهو جل شأنه حليم لا يسفه وعادل لا يظلم، وانّ إجابتهم لا تدفع في ذلك اليوم عن أممهم شرا ولا تجلب لهم خيرا ما لم تتعلق به المشيئة فكأنهم قالوا لا حقيقة لعلمنا إزاء علمك البالغ ولا نعلم حقيقة أفعالهم وأقوالهم تجاه علمك بذلك حال حياتنا معهم ولا ما أحدثوه بعد وفاتنا فعلم ذلك كله مختص بعلمك.واذكر يا أكمل الرّسل لأمتك {إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ} إذ أنبتها نباتا حسنا وطهرتها واصطفيتها على نساء زمانها وهذا أول نعمة أنعمتها عليك إذ أخرجتك منها و{إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ} جبريل عليه السّلام حالة كونك {تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ} وأنت طفل أنطقتك ببراءة أمك مما وصمها به قومك {وَكَهْلًا} تكلمهم أيضا بما أعطيتك من المعجزات وأنزلت عليك الآيات، وشرفتك بالرسالة لتدعو قومك حال بلوغك سن الكهولة إلى الإيمان بك من غير تفاوت في كلامك من حيث الفصاحة في هذين الوقتين، وهذا من جملة ما خصصتك به {وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ} الإنجيل الذي أنزلته عليك بعد أن علمتك الكتابة والقراءة تتلو عليهم، وقيل إنه علمه كتب الأولين النّازلة على الأنبياء قبله لأن فيها التوراة، مع أن التوراة ستأتي بعد، ولهذا فالأحسن الإيراد بالكتاب هنا الكتابة بالقلم {وَالْحِكْمَةَ} الفهم والاطلاع على أسرار العلوم والعالم والكلام الصّائب المحكم وحقائق الأشياء {وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ} قراءة وتلقينا ولفظ الكتاب يطلق على التوراة والإنجيل والزبور والقرآن فقط حقيقة، ومجازا على جميع الكتب والصّحف، ومن المعلوم أن ما قبل التوراة كلها صحف لا كتاب قبلها البتة، لهذا فإن تأويل الكتاب بكتابة القلم أولى {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ} خلقا تصوره بيدك {كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي} لك في ذلك وتعليمي إيّاك تقوية لدعوتك {فَتَنْفُخُ فِيها} في الصّورة التي صورتها من الطّين على هيئة الطّير ويجوز إعادة الضّمير إلى الطّير لأنها مؤنثة.قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ} الآية 19 من آل عمران المارة تذكير الضّمير، وهناك يعود إلى الكاف من قوله لكم أو إلى الطّين والمراد الشيء المماثل لهيئة الطّير {فَتَكُونُ} تلك الصورة المنفوخ فيها {طَيْرًا بِإِذْنِي} بأمري وكرره تأكيدا لكونه وقع وصار كما أراد بتوفيق اللّه تعالى وقدرته لا بتخليق عيسى ومعرفته، لأن المخلوق لا يخلق وأن التصوير بغير الرّوح لا يسمى خلقا {وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ} مطموس العينين ولادة، فكأن عليه السّلام تعلم ذلك بتعليم اللّه إياه وأمره أن يشق له موضع عينيه فتكون له عينان يبصر بهما كغيره من الحيوان بلا فرق {وَالْأَبْرَصَ} تبرأ أيضا بمجرد مسحك إياه {بِإِذْنِي} وأمري {وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى} من قبورهم أحياء، كما صح أنه عليه السّلام نادى ساما بن نوح عليه السّلام من قبره فقام، راجع الآية 50 من آل عمران المارة، مع أنه مرّ على وفاته آلاف السّنين وأحيا العازر، وابن العجوز، وبنت العشار، وغيرهم ممن مات حديثا ودفن، ولا فرق في ذلك، لأن اللّه تعالى يقول كان ذلك {بِإِذْنِي} وإذا كان بإذنه وأمره فيستوى عنده القديم والحديث، والبالي والباقي، فهو الفاعل الحقيقي لهذه الأشياء، وإنما أجراها على يد رسوله عيسى عليه السّلام معجزة له وعدها من جملة نعمه عليه في الدّنيا {وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ} حين أرادوا قتلك إذا دلهم عليك صاحبك المنافق وجاء بهم عليك ليقتلوك فمنعتهم أن يصلوا إليك ورفعتك إلى السّماء وألقيت شبهك على ذلك المنافق فقتلوه بذلك جزاء وفاقا لجرمه، هذا في الدّنيا وصلبوه إهانة له، وسيكون جزاؤه في الآخرة أشدّ وأفظع، ثم رفعتك إلى السّماء وأقمتك فيها لانتهاء مدتك الأولى في الأرض، راجع الآية 54 من سورة آل عمران المارة، وما كانت عداوة بني إسرائيل معك {إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ} العجيبة والآيات الباهرة الغريبة المثبتة لصدقك فكفروا بها حسدا وعدوانا وتمسكا بتقاليدهم لبقاء الرّياسة لهم {فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ} بتلك الآيات {إِنْ هذا} الذي جئت به ليس بحقيقة وما هو {إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110)} وذلك أن اللّه تعالى طبع على قلوبهم وأعمى أبصارهم فلم يميزوا بين الحقيقة والخيال عنادا وعتوا، تنبه هذه الآية تدل على قبح من يقول بإلهية عيسى، لأنه من جملة عباد اللّه، وأن ما فعله من المعجزات كان بفعل اللّه وإقداره عليها، وتدل على أنه كان عبد اللّه ورسولا له، ليس إله، ولا ابنا للإله، وأن أمه كسائر النساء، وإنما اختصها بما يكرمها ويفضلها على غيرها.وتشير إلى أن ما نسب إلى عيسى جرم عظيم لا يوازيه جرم من كذّب الرّسل فقط، لأن تكذيبهم طعن فيهم، وهذا طعن في اللّه تعالى لو صمه باتخاذ الولد والزوجة والشّريك تبرأ عن ذلك وتنزه.واذكر لقومك يا حبيبي قصة أخرى مما يتعلق بعيسى أيضا وهي {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ} أصحاب عيسى فالهمتهم وقذفت في قلوبهم {أَنْ آمِنُوا بِي} أنا اللّه ربكم ومالك أمركم {وَبِرَسُولِي} عيسى كما آمن الّذين من قبلكم بأنبيائي {قالُوا آمَنَّا} استجابة لما ألقيته في روعهم، ثم قالوا معلنين تمكين إيمانهم يا ربنا {وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (111)} لك منقادون إلى عظمتك والحواري الصّفي والخاصّة والوزير والأمين والخليفة، روى البخاري ومسلم عن جابر بن عبد اللّه قال: ندب النّبي صلّى اللّه عليه وسلم الناس يوم الخندق فانتدب الزبير، ثم ندبهم فانتدب الزبير، فقال صلّى اللّه عليه وسلم إن لكل نبي حواريا وحواري الزبير بن العوام رضي اللّه عنه أي صفيه وخاصته، وقد أخبر صلّى اللّه عليه وسلم بأنه يقتل، فقال بشر قاتل الزبير بالنار، وقتل رضي اللّه عنه في حادثة الجمل قبل البصرة ودفن هناك، وقبره يزار بالتعظيم والإجلال حتى الآن، وقد تشرفت بزيارته رضي اللّه عنه، وسميت البلدة التي دفن بها باسمه، وهذا أيضا من معجزات سيدنا محمد صلّى اللّه عليه وسلم وإخباره بالغيب الذي أطلعه اللّه عليه.واذكر لقومك يا سيد الرّسل {إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ} خوانا عليه طعام إذ لا يسمى الخوان مائدة إلّا وعليه الطّعام، وإلّا فهو خوان أو سفرة أو طبق أو طاولة {قالَ} عيسى عليه السّلام {اتَّقُوا اللَّهَ} يا قوم في سؤالكم هذا، لأنه اقتراح على اللّه، وقد علمتم ما فعل اللّه بالمقترحين عليه، لأن طلبكم هذا بعد ظهور المعجزات المذكورة، وبعد وجودي أنا من غير أب، وهو أكبر معجزة عبارة عن تعنّت يستوجب غضب الرّب عليكم، فانتهوا عن هذا يا أصحابي وتدبروا العاقبة وخذوا عبرة من الّذين اقترحوا على أنبيائهم الآيات كيف فعل اللّه بهم، فأعرضوا عن هذا {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112)} باللّه وإياكم أن تركنوا إليه، واعلموا أنكم إذا أصررتم على هذا تكونون ممن يشك بقدرة اللّه القادر على إجابة طلبكم.وإنما خوفهم وحذرهم لأن هذا لم يسأله أحد من الأمم قبلهم، وانه مما تخشى عاقبته، لأن قوم صالح اقترحوا على نبيهم شيئا لم يقترحه أحد قبلهم، فكانت عاقبتهم الدمار، قال بعض المفسرين إن طلبهم هذا جاء على حد قوله تعالى فيما حكاه عن إبراهيم عليه السّلام: {وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} الآية 263 من البقرة المارة، لأنهم كانوا عارفين باللّه مقرين بكمال قدرته على أنه لا مانع من إجراء الآية على ظاهرها كما يؤيده قوله تعالى: {قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها} حيث لحقنا الجوع والحال ليس بهم من جوع ولكن يريدون معرفة حق اليقين بعد أن علموا من نبيهم علم اليقين، ومما يدل على عدم وجود الجوع أمرهم بالصيام كما سيأتي {وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا} بقدرة اللّه فنزداد يقينا {وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا} عيانا ومشاهدة كما علمناه غيبا واستدلالا {وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (113)} لمن وراءنا من بني إسرائيل وللّه بكمال القدرة ولك بالقرب من ربك أكثر ممن تقدمك من الرّسل ولأنفسنا بالتصديق البالغ، فلما رأى إصرارهم وإجماع كلمتهم على ذلك أمرهم عليه السّلام بصيام ثلاثين يوما وقال لهم إذا أفطرتم بعدها فلا تسألوا اللّه شيئا إلّا أعطاكم إياه، ففعلوا.
|